الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **
قال ابن عربي رضي اللّه عنه الجمال نعت إلهي ونبه بقوله جميل على أنا نحبه فانقسمنا فمنا من نظر إلى جمال الكمال وهو جمال الحكمة فأحبه في كل شيء لأن كل شيء محكم وهو صنعة حكيم ومنا من لم يبلغ هذه الرتبة وماله علم بالجمال إلا هذا الجمال المقيد الموقوف على الغرض وهو في الشرع موضع قوله اعبد اللّه كأنك تراه فجاء بكاف التشبيه فمن لم يصل فهمه إلى أكثر من الجمال المقيد قيده به فأحبه لكماله ولا حرج عليه لإتيانه بالمشروع على قدر وسعه ولا يكلف اللّه نفساً إلا وسعها فبقي حبه تعالى للجمال وهي رتبة أهل الكمال فأحبه في كل شيء فإن العالم خلقه اللّه في غاية الأحكام والإتقان كما قال حجة الإسلام ليس في الإمكان أيدع مما كان فالعام جمال اللّه وهو الجميل المحب للجمال فمن أحب العالم بهذا النظر فما أحب إلا جمال اللّه إذ جمال الصنعة لا يضاف إليها بل إلى صانعها. - (م) في الإيمان (ت) في البر (عن ابن مسعود) قال قال رسول [ص 225] اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فقال إن اللّه جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس هكذا سياق مسلم والترمذي (طب عن أبي أمامة) الباهلي (ك عن ابن عمر) ابن الخطاب (وابن عساكر) في تاريخه (عن جابر) بن عبد اللّه (وعن ابن عمر) قال ابن مسعود قلت يا رسول اللّه أمن الكبر أن ألبس الحلة الحسنة فذكره، قال الحاكم احتجا بروايته وأقره الذهبي وقد وهم أعني الحاكم في استدراكه. 1721 - (إن اللّه جميل) أي جميل الذات والأفعال كما تقرر قال الزمخشري: والعرب تصف الشيء بفعل ما هو من سببه (يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده) أي أثر الجدة من فيض النعم عليه زياً وإنفاقاً وشكراً للّه تعالى فهو تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال وتارة يكون بالفعال (ويبغض البؤس والتباؤس) ومن آثار جمال أفعاله تقدس الرضى من عباده باليسير من الشكر وإثابة الكثير من الأجر على قليل العمل المدخول ويجعل الحسنة عشراً ويزيد من شاء ما شاء ويعفو عن السيئات ويستر الزلات فعلى عباده أن يتجملوا معه في إظهار نعمته عليهم المؤذن بقلة إظهار السؤال لغيره والطلب ممن سواه وتجنب أضداد ذلك من إظهار البؤس والفاقة (فإن قلت) ينافي هذا الحديث ما سبق من الأمر بلبس الخشن من الثياب في حديث (قلت) قد يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأحوال ولكل مقام مقال وقد كان جعفر الصادق رضي اللّه عنه يلبس الجبة على بدنه ويلبس الثياب الفاخرة وفوقها فقال له بعض من اطلع على حاله في ذلك فقال نلبس الجبة للّه والخز لكم فما كان للّه أخفيناه، وما كان لكم أبديناه، ثم رأيت الغزالي رضي اللّه تعالى عنه قال (فإن قلت) فقد قال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء القلب، وسئل نبينا صلى اللّه عليه وسلم عن الجمال في الثياب أهو من الكبر فقال لا فكيف الجمع فاعلم أن الثوب الجيد ليس من ضرورته التكبر في حق كل أحد في كل حال كما أن الثوب الدون قد لا يكون من التواضع وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف يكون وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء حتى في خلوته وحتى في ستور داره، فليس ذلك من الكبر، فقول عيسى هو من خيلاء القلب يعني يورث ذلك، وقول نبينا صلى اللّه تعالى عليه وسلم ليس من الكبر يعني الكبر لا يوجبه ويجوز أن يكون منه فالأحوال تختلف. - (هب عن أبي سعيد) الخدري وفيه أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي وسبق أنه وضاع ورواه عنه أيضاً أبو يعلى باللفظ المزبور. قال الهيثمي: وفيه عطية الصوفي ضعيف وقد وثق. 1722 - (إن اللّه جميل يحب الجمال، سخي يحب السخاء، نظيف يحب النظافة) لما سبق أن من تخلق بشيء من صفاته ومعاني أسمائه الحسنى كان محبوباً له مقرباً عنده وتنظيف الثوب والبدن مطلوب عقلاً وشرعاً وعرفاً، وقد صرح الفقهاء بأن نحو الزيات والقصاب وغيرهما من الدنسة ثيابهم يكونون في أخريات المسجد ندباً قال الفاكهي: وقد كانت ثياب شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف رضي اللّه عنه في غاية النقاء والنظافة والبياض إلى حد لا يبلغه ثياب الملوك في عصره كأنه مع ثيابه قطعة نور والنظافة مما تزيد في العين مهابة، وفي القلب جلالة، وقد تهاون بذلك جمع من الفقراء حتى بلغ ثوب أحدهم إلى حد يذم عقلاً وعرفاً، ويكاد يذم شرعاً سول الشيطان لأحدهم فأقمده عن التنظيف بنحو نظف قلبك قبل ثوبك، لا لنصحه بل لتخذيله عن امتثال أوامر اللّه ورسوله وإقعاده عن القيام بحق جليسه ومجامع الجماعة المطلوب فيها النظافة ولو حقق لوجد نظافة الظاهر تعين على نظافة الباطن، ومن ثم ورد أن المصطفى صلّى اللّه تعالى عليه وآله وسلم لم يتسخ له ثوب قط كما في المواهب وغيرها قيل لأنه لا يبدو منه إلا طيب ولم يقمل ثوبه (فإن قلت) [ص 226] ما سبب تعبيره في هذه الثلاثة بالجمال دون الحسن (فالجواب) أن الحسن إنما يوصف به ما كان مفرداً نحو خاتم حسن فإذا اجتمع من ذلك جمل وصف صاحبها بالجمال فالحسن يتعلق بالمفردات والجمال بالمركبات الجمليات ذكره السهيلي وغيره. - (عد عن ابن عمر) بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه. 1723 - (إن اللّه جواد) بالتخفيف أي كثير الجود أي العطاء (يحب الجود) الذي هو سهولة البذل والإنفاق وتجنب ما لا يحمد من الأخلاق وهو يقرب من معنى الكرم والجود يكون بالعبادة والصلاح وبالسخاء بالدنيا والسماح (ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها) أي رديئها وحقيرها وتمام الحديث عند مخرجه البيهقي ومن إعظام إجلال اللّه عز وجل إكرام ثلاثة: الإمام المقسط، وذو الشيبة في الإسلام وحامل القرآن غير الجافي عنه ولا المغالي فيه اهـ بحروفه. - (هب) من حديث الحجاج بن أرطأة عن سليمان بن شحيم (عن طلحة بن عبيد اللّه) بن كريز قال الزين العراقي: هذا مرسل. اهـ. ولعل المصنف ظن أنه طلحة الصحابي فوهم فكما أنه لم يصب في ذلك لم يصب في اقتضاء كلامه أن مخرجه البيهقي خرجه ساكتاً عليه وليس كما وهم بل تعقبه بما نصه في هذا الإسناد انقطاع بين سليمان وطلحة اهـ. والحجاج بن أرطأة ضعفوه (حل عن ابن عباس) مرفعاً وقال ابن الجوزي لا يصح. 1724 - (إن اللّه حرم من الرضاع ما حرم من النسب(1)) فيه دلالة جلية على أن لبن الفحل يحرم وهو مذهب الشافعي رضي اللّه عنه. - (ت) في النكاح وقال حسن صحيح (عن علي) أمير المؤمنين رضي اللّه عنه قال: يا رسول اللّه هل لك في بنت عمك حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة ثم ذكره وظاهر صنيع المصنف أنه لا يوجد مخرجاً له إلا الترمذي مع أن الشافعي رضي اللّه تعالى عنه خرجه بل عزاه في المنضد شرح المجرد لمسلم وللنسائي معاً اهـ. واللّه أعلم. ------------------------ (1) والتحريم بالرضاع له شروط مذكورة في كتب الفقه منها كون ذلك خمس رضعات وكون الطفل لم يبلغ حولين وكون اللبن انفصل من أنثى بلغت تسع سنين قمرية تقريباً. ------------------------ 1725 - (إن اللّه حرم الجنة) أي دخولها مع السابقين الأولين (على كل) إنسان مرائي لإحباطه عمله وإضراره بدينه بشغله نفسه برعاية من لا يملك له بالحقيقة ضراً ولا نفعاً فما دام أهل الرياء متلطخين بدنسه في كير التطهير حتى تنقى أوساخهم وأدرانهم ومن ثم كان السلف يعملون أعمال البر ويخافون أن لا تقبل منهم ويحافظون على استدامة إخلاص النية. قال الشريف السمهودي: كان شيخنا شيخ الإسلام فقيه العصر الشرف المناوي إذا أخرج إلى دهليزه ذاهباً للدرس يقف حتى يخلص النية ويستحضرها خوفاً من الرياء ثم يخرج وكان كثير ما ينشد: لئن كان هذا الدمع يجري صبابة * على غير ليلى فهو دمع مضيع ثم يبكي بكاءاً شديداً وقضية صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته عند مخرجيه أبي نعيم والديلمي معاً ليس البر في حسن اللباس والزي ولكن البر السكينة والوقار. - (حل فر عن أبي سعيد) الخدري وفيه سليمان بن أبي داود الحرالي قال الذهبي ضعفوه. [ص 227] 1726 - (إن اللّه تعالى حرم عليكم عقوق الأمهات(1)) خصهن وإن كان عقوق الآباء عظيماً لأن عقوقهن أقبح أو إليهن أسرع أو لغير ذلك فهو من تخصيص الشيء بالذكر إظهاراً لعظم موقعه، والعقوق صدور ما يتأذى به من قول أو فعل غير معصية. قال ابن حجر: ما لم يتعنت الأصل وضبطه ابن عطية بوجوب طاعتهما في المباحات فعلاً وندباً وندبها في المندوبات (ووأد) بفتح الواو وسكون الهمزة دفن (البنات) أحياء حين يولدن وكان أهل الجاهلية يفعلونه كراهة فيهن فخصهن لا لاختصاص الحكم بهن بل لأنه كان هو الواقع فوجه النهي إليه وأول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي أغار عليه عدوه فأسر بنته واستفرشها ثم اصطلحا فخير ابنته فاختارت زوجها فآلى على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها فتبعه العرب (ومنعاً) بسكون النون مع تنوين العين وهذه رواية البخاري لأبي ذر وفي رواية للبخاري بالسكون أيضاً بغير تنوين. قال البيضاوي: وإنما لم ينون وإن كان مصدراً لأن المضاف إليه محذوف منه مراداً أي كره منع ما عنده أو حرم منع الواجبات من الحقوق وفي رواية للبخاري أيضاً منع بالتحريك على بناء الماضي (وهات) بالبناء على الكسر فعل أمر من الإيتاء: أي حرم أخذ ما لا يحل من أموال الناس. والحاصل أنه عبر بهما عن البخل والمسألة فكره أن يمنع الإنسان ما عنده ويسأل ما عند غيره وهو معنى قولهم يمنع الناس رفده ويطلب رفدهم (وكره لكم قيل) كذا (وقال) فلان كذا مما يتحدث به من فضول الكلام فهما إما مصدران أتى بهما للتأكيد وحذف التنوين لإرادة المضاف إليه المحذوف أي كره لكم قيل وقال ما لا فائدة فيه أو ماضيان ونبه به على وجوب تجنب التبرع بنقل الأخبار لما فيه من هتك الأستار وكشف الأسرار وذلك ليس من دأب الأخيار، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه واللّه سبحانه ستار والستر لا يحصل مع كثرة نقل الأخبار ودلّ على إرادة النهي عن الإكثار عطفه قال علي قيل وهو من حسن الاعتبار والقول بأن المراد الأقوال الواقعة في الدين كأن تقول قال أهل السنة كذا والحكماء ولا يبين الأقوى أو بقيل الجواب وقال الابتداء بعيد ويخص من هذا النقل لضرورة أو حاجة سيما إذا كان عن ثقة (وكثرة السؤال) عن أحوال الناس أو عن ما لا يعني فربما كره المسؤول الجواب فيؤدي لسكوته فيجر للحقد والضغائن أو يلجئه إلى الكذب قالوا ومنه أين كنت أو المراد السؤال عن المسائل العلمية امتحاناً وإظهاراً للمراء وادعاء وفخراً ولا يحمل على سؤال الناس من أموالهم لكراهته وإن قل (وإضاعة المال) صرفه في غير حله وبذله في غير وجهه المأذون فيه شرعاً أو تعريضه للفساد واللّه لا يحب المفسدين أو السرف في إنفاقه بالتوسع في لذيذ المطاعم والمشارب ونفيس الملابس والمراكب وتمويه السقوف ونحو ذلك لما ينشأ عنه من غلط الطبع وقسوة القلب المبعدة عن الرب أما في طاعة فعبادة وقد نهى سبحانه عن التبذير وأرشد إلى حسن التدبير - (ق عن المغيرة بن شعبة) ابن مسعود الثقفي الصحابي المشهور. ------------------------ (1) العقوق بالضم من العق يقال عق والده إذا آذاه وعصاه وهو ضد البر والمراد به صدور ما يتأذى به الأصل من فرعه من قول أو فعل اهـ. ------------------------ 1727 - (إن اللّه حرم عليَّ الصدقة) فرضها وكذا نقلها (وعلى أهل بيتي) أي وحرم الصدقة فرضها فقط على مؤمني بني هاشم والمطلب لأنها أوساخ الناس فلا تحل لمحمد ولا لآل محمد كما فسره في أحاديث أخر. - (ابن سعد) في الطبقات (عن الحسن بن علي). [ص 228] 1728 - (إن اللّه تعالى حيث خلق الداء) أي أوجده وقدره (خلق الدواء فتداووا) ندباً بكل طاهر حلال وكذا بغيره إن توقف البرء عليه ولم يجد غيره يقوم مقامه كما سبق والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب وكذا تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك ودخل فيه الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له وأقروا بالعجز عن مداواته. - (حم عن أنس) بن مالك قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا عمران العمى وقد وثقه ابن حبان وغيره. 1729 - (إن اللّه تعالى حيي) بكسر المثناة تحت الأولى أي ذو حياء عظيم وأصل الحياء كما سبق انقباض النفس عن القبائح خوف لحوق عار وهو في حقه تعالى محال والقانون في مثله حمله على الغايات دون المبادىء(1) كما سبق (ستير) بالكسر والتشديد أي تارك لحب القبائح ساتر للعيوب والفضائح فعيل بمعنى فاعل وجعله بمعنى مفعول أي مستور عن العيون في الدنيا بعيد من السوق كما لا يخفى على أهل الذوق (يحب الحياء) أي من اتصف به والمراد الحياء المحمود بدليل خبر "إن اللّه لا يستحيي من الحق" (والستر(2)) من العبد وإن كره ما يستر عبده عليه كما يحب المغفرة وإن كره المعصية والعتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار والعفو وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار والتوبة وإن كره المعصية التي يتاب منها والجهاد وإن كره أفعال من يجاهدوه وهذا باب واسع يضيق عنه الأسفار واللبيب من يدخل عليه من بابه قال التوربشتي: وإنما كان اللّه يحب الحياء والستر لأنهما خصلتان يفضيان به إلى التخلق بأخلاق اللّه وقال الطيبي: وصف اللّه بالحياء والستر تهجناً لكشف العورة وحثاً على تحري الحياء والستر (فإذا اغتسل أحدكم فليستتر(3)) أي يستر عورته بما لا يصف اللون وجوباً إن كان بحضرته من يحرم النظر إلى عورته وندباً في غير ذلك ومن ثم ندبوا أن لا يدخل الماء إلا بإزار وعدّ الشافعية من سنن الغسل أن يستر عورته بإزار إن لم يحضر من يحرم نظره إليه بأن كان بخلوة أو حضرة من يحل نظره إليه كحليلته قالوا: وأما غسله عليه السلام متجرداً فلبيان الجواز فإن حضره من يحرم نظره لعورته وعلم منه أنه لا يغض بصره عنه لزمه الاستتار منه وحرم التكشف كما في الروضة والمجموع ويجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض كالتبرد فالغسل أولى. - (حم د) في الحمام (ن) في الطهارة (عن يعلى) بفتح الياء واللام (بن أمية) تصغير أمة التميمي وفيه أبو بكر بن عياش مختلف فيه وعبد الملك بن أبي سليمان قال في الكاشف عن أحمد ثقة يخطىء وأورده في الضعفاء وقال ثقة له حديث منكر. ------------------------------ (1) أما المبدأ فهو التغير الجسماني الذي لا يلحق الإنسان من خوف كأن ينسب إلى القبيح وأما النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل فإذا ورد الحياء في حق اللّه فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمه يل ترك الفعل الذي هو منتهاه وغايته وكذا الغضب له مقدمة وهي غليان دم القلب وشهوة الانتقام وله غاية وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه اهـ. (2) الستر بفتح السين أي يحب من فيه ذلك ولهذا جاء في الحديث الحياء من الإيمان وجاء أيضاً من ستر مسلماً ستره اللّه اهـ. (3) قال العلقمي وسببه كما في أبي داود أن رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم رأى رجلاً يغتسل بالبراز -بفتح الباء الموحدة هو الفضاء الواسع- فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه - فذكره اهـ. ------------------------------- 1730 - (إن اللّه تعالى) في رواية إن ربكم (حيي) بكسر الياء الأولى (كريم) أي جواد لا ينفد عطاؤه (يستحيي [ص 229] إذا رفع الرجل) يعني الإنسان وذكر الرجل وصف طردي (إليه يديه) سائلاً متذللاً (أن يردّهما صفراً) أي خاليتين (خائبتين) من عطائه لكرمه والكريم يدع ما يدعه تكرماً ويفعل ما يفعله تفضلاً فيعطي من لا يستحق ويدع عقوبة المستوجب والكريم المطلق هو اللّه فإذا رفع عبده يديه متذللاً مفتقراً حاضر القلب موقناً بالإجابة حلال المطعم والمشرب كما يفيده قوله في خبر مسلم فأنى يستجاب له ومطعمه حرام ومشربه حرام يكره حرمانه وإن لم يستوجب المسؤول وقد يعطي الكافر ما يسأله لشدة كرمه. قال الزمخشري في الفائق: قوله يستحيي إلى آخره جملة مستأنفة بإعادة من استؤنف عنه الحديث يعني حياؤه وكرمه يمنعه أن يخيب سائله. اهـ. وفي الكشاف هو جار على سبيل التمثيل وفيه ندب رفع اليدين في الدعاء ورد على مالك حيث كره ذلك. قال ابن حجر: وقد ورد في رفع اليدين أخبار صحيحة صريحة لا تقبل تأويلاً. اهـ. لكن عدم الرد لا يتوقف على الرفع إذا توفرت الشروط وإنما قيد به لأنه حال السائل المتذلل المضطر عادة. - (حم د) في الصلاة (ت ه) في الدعوات (ك) كلهم (عن سلمان) الفارسي بفتح المهملة وسكون اللام. قال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم على شرطهما ونوزع بأن فيه كما بينه الصدر المناوي وغيره جعفر بن ميمون قال أحمد ليس بقوي لكن قال ابن حجر سنده جيد. 1731 - (إن اللّه تعالى ختم سورة البقرة بآيتين) وهما من قوله - (ك) في فضائل القرآن عن عبد اللّه بن صالح عن معاوية عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير (عن أبي ذر) ثم قال على شرط البخاري فردّه الذهبي بأن معاوية لم يحتج به البخاري قال ورواه ابن وهب عن معاوية مرسلاً. 1732 - (إن اللّه خلق الجنة) التي هي دار الثواب (بيضاء) أي نيرة مضيئة فترابها وإن كان من زعفران لكن ذلك الزعفران له لمعان وبريق يعلوه نور وإشراق وبياض وشجرها وإن كان أخضر لكنه يتلألأ نوراً وإشراقاً (وأحب شيء إلى اللّه) في رواية وأحب الزي إلى اللّه (البياض) فليلبسه أحياؤكم وكفنوا به موتاكم وفي رواية خلق اللّه الجنة بيضاء وإن أحب اللون إلى اللّه البياض وسئل الحبر عن أرض الجنة فقال مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل ما نورها قال أما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس؟ فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير رواه ابن أبي الدنيا بإسناد قال السمهودي حسن ولا ينافيه خبر إن ترابها الزعفران لأن الأرض نفسها بيضاء والتراب الذي هو فوق الأرض أصفر وفي خبر ابن ماجه ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ. واعلم أن الأشياء كلها من آثار الفضل والعدل والفضل من الجمال والعدل من الملك والقدرة فمن الجمال نشأت الرحمة وظهر العطف والفضل حتى اهتزت الجنة وربت وأشرقت بنور ربها وازينت فمن ثم كانت بيضاء نورانية مشحونة بالروح والريحان ومن الملك بدأ الغضب فاسعرت النار واسودت فهي سوداء مظلمة من غضبه وما هي إلا نظرة وجفوة فأهل الثواب سعدوا منه بنظرة واحدة وأهل العقاب شقوا بجفوة واحدة والخلق إيجاد الشيء على تقدير [ص 230] واستواء. - (البزار) في مسنده (عن ابن عباس) قال الهيثمي عقب عزوه للبزار فيه هشام بن زياد وهو متروك وظاهر حال المصنف أنه لم يره مخرجاً لأحد من الستة وإلا لما عدل عنه وإنه لشيء عجاب فقد خرجه ابن ماجه عن ابن عباس المذكور بلفظ إن اللّه خلق الجنة بيضاء وأحب الزي إليه البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم انتهى بلفظه. 1733 - (إن اللّه خلق خلقه) أي الثقلين فإن الملائكة ما خلقوا إلا من نور ولم يخلقوا من ظلمة الطبيعة والميل إلى الشهوة والغفلة عن معالم الغيب (في ظلمة) أي كائنين في ظلمة الطبيعة فالنفس الأمارة بالسوء المجبولة بالشهوات المردية والأهواء المضلة والركون إلى المحسوسات والغفلة عن معالم الغيب وأسرار عالم القدس (فألقى) وفي رواية للحكيم بدله رش والإلقاء في الأصل طرح الشيء حيث يلقاه ثم صار في التعارف إسماً لكل طرح (عليهم من نوره) أي شيئاً من نوره ومن إما للتبيين أو للتبعيض أو زائدة وكذا في من ذلك النور وهو ما نصب من الشواهد والرباهين وأنزل من الآيات والنذر (فمن) شاء اللّه هدايته (أصابه من ذلك النور يومئذ) فخلص من تلك الظلمة (واهتدى) إلى إصابة طرق السعداء (ومن أخطأه ذلك النور) أي جاوزه وتعداه لعدم مشاهدة تلك الآيات وإبصاره تلك البراهين الجليات (ضل) أي بقي في ظلمة الطبيعة متحيراً كالأنعام كما هو حال الفجرة المنهمكين في الشهوات المعرضين عن الآيات والنذر، أو المراد خلق الذر المستخرج من صلب آدم فعبر بالنور عن الألطاف التي هي تباشير صبح الهداية وإشراق لمع برق العناية ثم أشار بقوله أصاب وأخطأ إلى ظهور أثر تلك العناية في الإنزال من هداية بعض وضلال بعض أو معنى في ظلمته جهالاً عن معرفة اللّه لأن العبودية لا تدرك الربوبية إلا بإحداث المعرفة منها لها وهو معنى ألقى عليهم من نوره أي هدى من شاء فعبر عن الهدى بالنور فلا يعرف اللّه إلا باللّه فالدلائل لإلزام الحجة لا سبب للّهداية بمجردها وإلا لاهتدى بها كل ناظر وكم نظر فيها ذو عقل سليم وفهم قويم وفكر مستقيم ولم يزده ذلك إلا ضلالاً. قال الطيبي: والتوفيق بين ما ذكر من معنى هذا الحديث وحديث كل مولود يولد على الفطرة أن الإنسان مركب من الحيوانية المقتضية العروج إلى عالم القدس وهي مستعدة لقبول فيضان نور اللّه الهادي ومهيؤ للتحلي بحلية الدين ومن النفسانية المائلة إلى الخلود في الأرض والانهماك في الشهوات والركون إلى المرديات فلاحظ في هذا الحديث أن الإنسان خلق على حالة لا ينفك عنها إلا من أصابه من ذلك النور الملقى عليه وذلك الحديث لمح إلى القضاء بقوله كل مولود يولد على الفطرة واختار بعض محققي الصوفية تبعاً للحكيم الترمذي إجراء هذا الحديث على ظاهره وحمل الظلمة والنور على الحقيقة فقال: خلقهم كالنجوم الدراري ثم سلبهم الضوء فوضعهم في ترابية التربة التي أراد منها إنشاء خلق آدم وقد طمس ضوءهم فلبثوا في تلك الظلمة إلى أن مضى نحو خمسين ألف سنة فصاروا في طول ذلك اللبث في تلك الظلمة ثلاث أصناف فصنف منهم قال: الذي ملكنا لم يدم ملكه فعجز عنا وإلا لما تركنا هنا كالمنسي، وصنف قالوا: نحن هنا ننتظر ما يكون وهو دائم، وصنف صارت تلك الترابية في أفواههم فقال: ما الذي رأيتم مني حتى تنسبوني إلى العجز وانقطاع الملك فصارت هذه الكلمة ختماً على أفواههم وهو قوله - (حم ت ك) وكذا ابن حبان (عن ابن عمرو) بن العاص قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وصححه أيضاً ابن حبان وقال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات وقال ابن حجر رحمه اللّه تعالى فتاويه: إسناده لا بأس به وظاهر صنيع المصنف أن مخرجيه لم يزيدوا فيه على ما ذكره والأمر بخلافه بل بقية الحديث عندهم فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه انتهى لكن ادعى بعضهم أن قائل ذلك هو ابن عمرو فلعل المؤلف يميل إلى هذا القول فقوله ولذلك أي من أجل عدم تغير ما جرى في الأزل تقديره من إيمان وطاعة وكفر ومعصية أقول جف القلم. 1734 - (إن اللّه تعالى خلق آدم من قبضة) أصلها ما يضم عليه من كل شيء (قبضها من جميع) أجزاء (الأرض) أي ابتداء خلقه من قبضته فمن ابتدائية إن كان من قبضة متعلقاً بخلق وإن كان حالاً من آدم تكون بيانية والقبضة هنا مطابقة الآية - (حم د) في السنة (ت) في التفسير(ك هق عن أبي موسى) الأشعري قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان وغيره. ------------------------- (1) وما أحسن قول القائل: الناس كالأرض ومنهاهم * من خشن في اللمس أو لين فجندل تدمي به أرجل * والمد يجعل في الأعين وكذا جميع الدواب والوحوش فالحية أبدت بجوهرها حيث خانت آدم حتى لعنت وأخرجت من الجنة وافأر قرض حبال سفينة نوح والغراب أبدى جوهره الخبيث حيث أرسله نوح من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فأقبل على جيفة وتركه. ------------------------- 1735 - (إن اللّه خلق الخلق) أي المخلوقات ثم جعلهم فرقاً (فجعلني) أي صيرني تعالى (في خير فرقهم) جمع فرقة أي أشرفها (وخير الفريقين) وفي نسخ الفرقتين (ثم تخير القبائل) أي اختار خيارهم فضلاً (فجعلني في خير قبيلة) من القرب هذا بحسب الإيجاد أي قدر إيجادي في خيرها قبيلة (ثم تخير البيوت) أي اختارهم شرفاً (فجعلني في خير بيوتهم) أي في أشرف بيوتهم قال ابن تيمية: وقوله خلق الخلق يحتمل شيئين أحدهما أن الخلق هم الثقلان أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم وإن قيل بعموم الخلق حتى تدخل الملائكة أفاد تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة قال والفريقان العرب والعجم ثم جعل العرب قبائل وجعل قريشاً أفضلها، بيوتاً وجعل بني هاشم أفضلها، ويحتمل أنه أراد بالخلق بنو آدم فكان في خيرهم أبا في ولد إبراهيم أبي العرب ثم جعل بني إبراهيم فرقتين بني إسماعيل وبني إسحاق وجعل العرب عدنان وقحطان فجعل بني إسماعيل في بني عدنان ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل فجعل في خيرهم قبيلة وهم قريش وأياً ما كان فالحديث صحيح في تفضيل العرب على العجم (فأنا) بفضل اللّه عليّ ولطفه في سابق علمه (خيرهم نفساً) أي روحاً وذاتاً إذ جعلني نبياً رسولاً فاتحاً خاتماً (وخيرهم بيتاً) أي أصلاً إذ جئت من طيب إلى طيب إلى صلب عبد اللّه بنكاح لا سفاح ولم يردفه بقوله ولا فخر كما في خبر أنا سيد ولد آدم ولا فخر، لأن هذا بحسب حال المخاطبين في صفاء قلوبهم بما يعلمه من حالهم أو أن هذا بعد ذلك والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقة الذات والتفاضل فيما قام بها من الصفات حتى في الأقوات - (ت عن العباس بن عبد المطلب) قال: قلت يا رسول اللّه إن قريشاً تذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة أي كناسة فذكره. 1736 - (إن اللّه خلق آدم من طين الجابية) بجيم فموحدة تحتية فمثناة كذلك فاعلة من جباء موضع بالشام، وباب الجابية بدمشق معلوم، ويعارضه ما مر أنه خلقه من جميع أجزاء الأرض، وقد يجاب بأنه قبض من الجابية قبضة ومن جميع أتراب الأرض قبضة ومزجهما (وعجنه بماء من ماء الجنة) إشارة إلى أنه وإن أخرج سيعود إليها فكان من بديع فطرته وعجيب صنعته، فأعظم بها من إكرام فلم يكن يصلح له حينئذ مكان يليق به مع هذه المكارم إلا داره فتوجه بتاج الملك وكساه كمال الجمال وأجلسه على الأسرة بمهابة وإجلال حتى جاء وقت السقوط وغلب القضاء والقدر فكان [ص 233] ما كان قال بعض العارفين: إذا فتح عليك بالتصرف فأت البيوت من أبوابها وإياك والفعل بالهمة بغير آلة، ألا ترى إلى الحق سبحانه كيف خمر طينة آدم وعجنها وسواه وعدله ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء فأوجد الأشياء على ترتيب ونظام ولو شاء أن يكون ابتداه بغير تخمر ولا عجن لفعل. - (ابن مردويه) في تفسيره (عن أبي هريرة). 1737 - (إن اللّه) أي الذي لا يستطيع أحد أن يقدر قدره (خلق لوحاً محفوظاً) وهو المعبر عنه في القرآن المجيد بذلك وبالكتاب المبين وبأم الكتاب وبإمام مبين (من درة بيضاء) لؤلؤة عظيمة كبيرة في نهاية الإشراق وغاية الصفاء وفي حديث البيهقي رضي اللّه تعالى عنه في الشعب إنه من زبرجدة خضراء، وفي رواية لابن أبي حاتم إحدى وجهيه من ياقوت والآخر من زبرجدة خضراء فقد يقال إنه يتلون والبياض لونه الأصلي (صفحاتها) أي جنباتها ونواحيها. قال في الصحاح: صفح الشيء ناحيته وصفحة كل شيء جانبه وصفائح الباب ألواحه (من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه) أي مكتوبة (نور) بين به أن اللوح والقلم ليسا كألواح الدنيا المتعارفة ولا كأقلامها وكذا والكتابة وليس في هذا الخبر ذكر طول اللوح ولا عرضه ولا طول القلم وفي رواية للطبراني عن ابن عباس أن عرضه ما بين السماء والأرض وفي كنز الأسرار عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أيضاً أن طول اللوح ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وهو في حجر ملك يقال له ماطريون وفي تفسير الفخر الرازي من حديث البيهقي عن ابن عباس أيضاً أن اللوح بين يدي إسرافيل فإذا أذن له في شيء ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته فنظر فإذا كان الأمر من عمل جبريل عليه السلام أمره به أو من عمل ملك الموت أمره به، الحديث، وأما القلم ففي رواية لأبي الشيخ عن ابن عمران طوله خمس مئة عام (للّه في كل يوم) أي أو ليلة كما في حديث ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً أي مقدارهما من الزمن وإلا فليس ثم ليل ولا نهار (ستون وثلاث مئة لحظة) على عدد أجزاء اليوم والليلة فإن ذلك مقسم على ثلاث مئة وستين جزءاً كل جزء يسمى درجة فلما كان ذلك أقل ما يحسن بالنسبة إلينا، عبر به تقريباً لأفهامنا (يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء) فإن كان العبد على حالة مرضية مهدياً رشيداً أدركته اللحظة على حالة مرضية فوصل إلى الأمل من نوال الخير وصرف السوء وإذا كان غاوياً فاللحظة بين القدرة والحلم فإما بطش جبار وإما عفو غفار فعلم أن الحديث إشارة إلى آثار القدرة الكاملة التي لا يقاس عليها غيرها فأخبر عليه السلام أن بيده تصريف الأمور وتكوينها على ما يشاء في أي زمن شاء وخصص الستة الأولى لأهميتها ووقوع أكثر الأفعال إليها ثم عمم. - (طب) وكذا الحاكم والحكيم (عن ابن عباس) قال أعني ابن عباس لوددت أن عندي رجلاً من أهل القدر فوجأت رأسه قالوا ولم ذلك فذكره قال الهيثمي: ورواه الطبراني من طريقين رجال أحدهما ثقات انتهى ولم يصب ابن الجوزي حيث حكم عليه بالوضع. 1738 - (إن اللّه خلق الخلق) أي قدر المخلوقات في علمه السابق على ما هم عليه وقت وجودهم (حتى إذا فرغ من خلقه) أي قضاه وأتمه والفراغ تمثيلي وقول الأكمل خلق إن كان بمعنى أوجد فالفراغ على حقيقته رد بأن الفراغ الحقيقي بعد الشغل واللّه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ثم إن ذا بعد خلق السماوات والأرض وإبرازها للوجود أو بعد خلقها كتبا في اللوح أو بعد انتهاء خلق أرواح بني آدم عند قوله - (ق ن عن أبي هريرة) ثم قال أبو هريرة رضي اللّه عنه ------------------------------ (1) وإنما خاطب الناس بما يفهمونه ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال وهو القرب وإسعافه بما يريد ومساعدته على ما يرضيه وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق اللّه تعالى عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده. ------------------------------- 1739 - (إن اللّه خلق) أي قدر (الرحمة) التي يرحم بها عباده، ورحمته إرادة الإنعام أو فعل الإكرام فمرجعها صفة ذاتية أو فعلية فهي حادثة من حيث إنها فعل كائن عن الإرادة (يوم خلقها مئة رحمة) قال التوربشتي: رحمة اللّه غير متناهية فلا يعتريها التقسيم والتجزئة وإنما قصد ضرب المثل للأمة ليعرفوا التفاوت بين القسطين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة وقسط كافة المربوبين في الأولى فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمة في الدارين على الأقسام المذكورة تنبيهاً على المستعجم وتوفيقاً على المستفهم ولم يرد به تجريد ما قد حلى عن الحد أو تعديد ما يجاوز العد (فأمسك عنده تسعاً وتسعون رحمة وأرسل) وفي رواية وأنزل (في خلقه كلهم رحمة واحدة) تعم كل موجود فكل موجود مرحوم حتى في آن العذاب إذ الكف عن الآشد رحمة وفضل (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللّه من الرحمة) الواسعة (لم ييأس(1)) أي لم يقنط (من الجنة) أي من شمول الرحمة له فيطمع في أن يدخل الجنة (ولو يعلم المؤمن بالذي عند اللّه من العذاب لم ييأس من النار) أي من دخولها قال الطيبي: سياق الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة للّه فكما أن صفاته تعالى غير متناهية لا يبلغ كنه معرفتها أحد فكذا عقوبته ورحمته فلو فرض أن المؤمن وقف على كنه صفة القهارية لظهر منها ما يقنط من ذلك الخلق طراً فلا يطمع في جنته أحد، هذا معنى وضع ضمير المؤمن، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق فالتقدير أحد منهم ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر وهو أن المؤمن اختص [ص 235] بأن يطمع في الجنة فإذا انتفى منه فقد انتفى عن الكل وكذا الكافر مختص بالقنوط فإذا انتفى القنوط عنه انتفى عن الكل انتهى. وقال المظهر: ورد الحديث في بيان كثرة عقوبته ورحمته لئلا يغتر مؤمن برحمته فيأمن عذابه. وقال العلائي: هذا بيان واضح لوقوف العبد بين حالتي الرجاء والخوف وإن كان الخوف وقت الصحة ينبغي كونه أغلب أحواله لأن تمحض الخوف قد يوقعه في القنوط فينقله لحالة أشر من الذنوب. - (ق عن أبي هريرة) رضي اللّه عنه وفي الباب عن معاوية بن حيدة وعبادة وغيرهما. ----------------------------- (1) وفي نسخة لم يأمن من النار فهو سبحانه غافر الذنب شديد العقاب والمقصود من الحديث أن الشخص ينبغي له أن يكون بين حالتي الرجاء والخوف. ------------------------------ 1740 - (إن اللّه خلق يوم خلق السماوات والأرض مئة رحمة(1)) أي أظهر تقديرها يوم أظهر تقدير السماوات والأرض وفيه بشرى للمؤمنين لأنه إذا حصل من رحمة واحدة في دار الأكدار ما حصل من النعم الغزار فما ظنك بباقيها في دار القرار (كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض) أي ملء ما بينهما وقد مر معنى الطباق ومقصوده التعظيم والتكثير وورود ذلك بهذا اللفظ غير عزيز (فجعل في الأرض منها رحمة) قال القرطبي: هذا نص في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة وأنها راجعة إلى المنافع والنعم (فيها تعطف) أي تحن وترق وتشفق وفي الصحاح عطف عليه شفق وفي المصباح عطفت الناقة على ولدها عطفاً حنت (الوالدة على ولدها) من الآدميين وكل ذي روح (والوحش والطير) أي وغيرهما من كل نوع من أنواع ذوات الأرواح ولعل تخصيص الوحش والطير لشدة نفورها واللّه أعلم بمراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال القرطبي: وحكمة ذلك تسخير القوي للضعيف والكبير للصغير حتى يتحفظ نوعه وتتم مصلحته وذلك تدبير اللطيف الخبير (بعضها على بعض وأخر تسعاً وتسعين فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة) فالرحمة التي في الدنيا يتراحمون بها أيضاً يوم القيامة. قال المهلب: الرحمة رحمتان رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد ورحمة من صفة الفعل وهي هذه وقال العارف البوني رضي اللّه تعالى عنه الذاتية واحدة ورحمته المتعدية متعددة وهي كما في هذا الخبر مئة ففي الأرض منها واحدة يقع بها الارتباط بين الأنواع وبها يكون حسن الطباع والميل بين الجن والإنس والبهائم كل شكل إلى شكله والتسعة والتسعون حظ الإنسان يوم القيامة يتصل بهذه الرحمة فتكمل مئة فيصعد بها في درج الجنة حتى ترى ذات الرحيم وتشاهد رجمته الذاتية. - (حم م عن سلمان) الفارسي (حم ه) عن أبي سعيد الخدري. ------------------------ (1) حصره في مئة على سبيل التمثيل تسهيلاً للفهم وتقليلاً لما عند الخلق وتكثيراً لما عند اللّه تعالى وأما مناسبة هذا العدد الخاص فثبت أن نار الآخرة تفضل نار للدنيا بتسعة وستين جزءاً فإذا قوبل كل جزء برحمة زادت الرحمات ثلاثين جزءاً فالرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها ويؤيده قوله تعالى في الحديث القدسي غلبت رحمتي غضبي ويحتمل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاص لكونه مثل عدد درج الجنة والجنة هي محل الرحمة فكانت كل رحمة بإزاء درجة وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللّه تعالى فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم من حصلت له جميع أنواع الرحمة وهذه الرحمة كلها للمؤمنين بدليل قوله تعالى ------------------------- 1741 - (إن اللّه خلق الجنة) وجمع فيها كل طيب (وخلق النار) وجمع فيها كل خبيث (فخلق لهذه أهلاً) وهم السعداء وحرمها على غيرهم (ولهذه أهلاً) وهم الأشقياء وحرمها على غيرهم وجعلهما جميعاً في هذه الدار سبعاً فوقع الابتلاء والامتحان [ص 236] بسبب الاختلاط وجعلها دار تكليف فبعث إليهم الرسل لبيان ما كلفهم به من الأقوال والأفعال والأخلاق وأمرهم بجهاد الأشقياء فقامت الحرب على ساق فإذا كان يوم القيامة أي يوم الميعاد ميز اللّه الخبيث من الطيب فجعل الطيب وأهله في دارهم والخبيث وأهله في دارهم فينعم هؤلاء بطيبهم ويعذب هؤلاء بخبثهم لانكشاف الحقائق. قال البيضاوي: وفيه أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال بل الموجب لهما هو اللطف الرباني والخذلان الإلهي المقدر لهم وهم في أصلاب آبائهم بل وهم وآبائهم وأصول أكوانهم بعد في العدم قال العارف ابن عربي رضي اللّه عنه: عن عقائد الإسلام أن تعتقد ان اللّه سبحانه أخرج العالم قبضتين وأوجد لهم منزلتين فقال هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي ولم يعترض عليه معترض هناك إذ لا موجود كان ثم سواه فالكل تحت تصريف أسماءه فقبضة تحت أسماء بلائه وقبضة تحت أسماء آلاءه ولو أراد تعالى أن يكون العالم كله سعيدً لكان أو شقياً لما كان من ذلك في شأن لكنه لم يرد فكان كما أراد
|